نسب أم حبيبةأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان؛ صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويَّة (25 ق.هـ- 44هـ/ 596- 664م)، وأُمُّها صفية بنت أبي العاص بن أمية عمَّة عثمان بن عفان.
هجرة أم حبيبة وثباتهاهاجرتْ أمُّ حبيبة مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فَوَلَدَتْ له حبيبة، وبها تُكنى رضي الله عنها، وفي الحبشة تنصَّر عبيد الله، وثبتَتْ هي على الإسلام[1].
وفي الحبشة رأت السيدة أمُّ حبيبة رؤيا، ثم أصبحت واقعًا جديدًا لها، فتروي رضي الله عنها: رأيتُ في النوم كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورةٍ وأشوهه، ففزعتُ فقلتُ: تغيَّرَتْ والله حالهُ. فإذا هو يقول حين أصبح: يا أمَّ حبيبة، إني نظرت في الدين فلم أَرَ دينًا خيرًا من النصرانيَّة، وكنتُ قد دِنْتُ بها ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت في النصرانيَّة. فقلتُ: والله ما خِيرَ لكَ. وأخبرْتُهُ بالرؤيا التي رأيتُها، فلم يحفلْ بها، وأكبَّ على الخمر حتى مات.
مكانة أم حبيبة وفضلهاهي من بنات عمِّ الرسول ، ليس في أزواجه مَنْ هي أكثر صداقًا منها، ولا مَنْ تزوَّج بها وهي نائية الدار أبعد منها[2].
وهي -رضي الله عنها- ابنة زعيم مكة وقائدها أبو سفيان بن حرب، ورغم ذلك فقد أعلنتْ إسلامها رغم معرفتها بعاقبة هذا الأمر عليها وسخط أبيها، وما يجره ذلك من متاعب وآلام انتهت بهجرتها وزوجها المسلم آنذاك إلى الحبشة.
وقد هاجرت -رضي الله عنها- إلى الحبشة وهي حامل بابنتها حبيبة ووَلَدَتها هناك[3]، وفي هذا ما فيه من المشقَّة والتعب والتضحية في سبيل الله؛ ممَّا يدلُّ على عمق إيمانها وصدق يقينها بالله تعالى، وقد تنصَّرَ زوجها عبيد الله بن جحش، وساءت خاتمته، فتُوُفِّيَ على الكفر والعياذ بالله.
ومع هذا فقد ثبتَتْ -رضي الله عنها- على الإسلام، ثبتت رغم كُفْرِ أبيها[4] وتنصُّر زوجها، ثبتَتْ لمَا أراد الله بها من الخير، ولمَا أَعَدَّ لها من الخير في الدنيا والآخرة.
زواج أم حبيبة من رسول اللهرأت أمُّ حبيبة في منامها كأنَّ آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين. ففزِعْتُ فأوَّلتُها أن رسول الله يتزوَّجني. قالت: فما هو إلاَّ أن انقضت عِدَّتي فما شعرت إلاَّ برسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له -يقال لها: أبرهة- كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فدخلَتْ علَيَّ، فقالت: إن المَلِكَ يقول لكِ: إن رسول الله كتب إلَيَّ أن أُزَوِّجَكه. فقالت: بشَّركِ الله بخير. قالت: يقول لك الملك وكِّلي مَنْ يُزَوِّجك. فأرسلتْ خالدَ بن سعيد بن العاص، فوكَّلَتْه وأعطتْ أبرهة سواريْن من فضة وخَدَمتَين[5] كانتا في رجليها، وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها؛ سرورًا بما بشَّرتها، فلمَّا كان العشيّ أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومَنْ هناك مِن المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنه الذي بشَّر به عيسى بن مريم؛ أمَّا بعد: فإن رسول الله كتب إلَيَّ أن أزوجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله ، وقد أصدقْتُها أربعمائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلَّم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستنصره، وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ؛ ليُظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. أمَّا بعد، فقد أجبتُ إلى ما دعا إليه رسول الله وزوَّجته أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول . ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا؛ فإن سُنَّة الأنبياء إذا تزوَّجوا أن يُؤكل طعامٌ على التزويج. فدعا بطعام وأكلوا، ثم تفرَّقوا.
قالت أمُّ حبيبة: فلمَّا وصل إلَيَّ المال أرسلتُ إلى أبرهة التي بشَّرتني، فقلتُ لها: إنِّي كنتُ أعطيتُك ما أعطيتُك يومئذٍ ولا مال بيدي، فهذه خمسون مثقالاً، فخُذيها فاستعيني بها. فأبتْ وأخرجتْ حُقًّا فيه كل ما كنتُ أعطيتُها فردَّتْه عليَّ، وقالت: عزم عليَّ الملك أن لا أَرْزَأَكِ[6] شيئًا، وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعتُ دين محمد رسول الله ، وأسلمتُ لله ، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر. قالت: فلمَّا كان الغد جاءتني بعُودٍ، ووَرَسٍ، وعنبر وزبَّادٍ[7] كثير، فقَدِمْتُ بذلك كلِّه على رسول الله ، فكان يراه علَيَّ وعندي فلا ينكره. ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي على رسول الله منِّي السلام، وتُعلميه أنِّي قد اتَّبعتُ دينه. قالت: ثم لطفتْ بي وكانت التي جَهَّزتني، وكانت كلَّما دخلت علَيَّ تقول: لا تنسَيْ حاجتي إليك. قالت: فلمَّا قَدِمْتُ على رسول الله أخبرْتُه كيف كانت الخطبة، وما فعلَتْ بي أبرهة، فتبسَّم، وأقرأْتُه منها السلام، فقال: "وَعَلَيْهَا السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ"[8].
الحكمة من زواج الرسول بأم حبيبةتزوَّج النبي السيدة أمَّ حبيبة في العام السابع من الهجرة النبويَّة المشرَّفة، وكان زواجه منها تكريمًا لها على ثباتها في دين الله، فكم من امرأة تَتْبَعُ زوجها في كل حركة وسكنة في حياته، تفعل الخير بفعله، وتكفُّ عن الشرِّ بِكَفِّه!! لكنَّ هذه المرأة المهاجرة بدينها وولدها لم يُزعزعها أَلَمُ الفراق بينها وبين زوجها وعائلها في بلد يبعد آلاف الأميال عن بلدها، وإنما حاولتْ بكل ما أُوتيتْ من قوَّة أن تثني زوجها عن تغيير عقيدته إلى عقيدة التوحيد، لكنَّه أصرَّ وتولَّى، فصبرتْ وشكرتْ، فكافأها الله بزواجها من رسول الله ، وجعلها أُمًّا للمؤمنين.
لم يكن رسول الله بمنأًى عمَّا يحدث لأصحابه أينما كانوا، فقد كان القائد الأوَّل للمسلمين يتابع أحوال الجميع، إنه مسئول يتفقَّد رعيَّته، ولم تكن أحوال المسلمين المهاجرين إلى الحبشة لِتَخْفَى عليه، فقد كان يُتابعها بشكل دائم، وقد وصلت إليه أخبار السيدة الكريمة الشريفة أمِّ حبيبة وما لاقتْ من مصاعب ومتاعب، وكيف صبرتْ وثبتتْ وتمسَّكتْ بالإسلام، رغم كل ما مرَّتْ به من أحوال، فكانت مواساة رسول الله لها أن طلب الزواج منها، تقول السيدة أمُّ حبيبة رضي الله عنها: فأرى في النوم كأنَّ آتيًا يقول: يا أمَّ المؤمنين. ففزعتُ، فأوَّلتُها أن رسول الله يتزوجني. قالت: فما هو إلا أن انقضتْ عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له يقال لها: أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودهنه، فدخلت عليَّ فقالت: إن الملك يقول لكِ: إن رسول الله كتب إليَّ أن أزوجكه، فقالت: بشرك الله بخير. قالت: يقول لك الملك: وَكِّلِي مَنْ يُزَوِّجكِ، فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته...[9].
فكان هذا الزواج تعويضًا لها عمَّا لاقته -رضي الله عنها- من عَنَتٍ ومشقَّة، ومكافأة لها من الله لصبرها وثباتها، وما ادَّخره الله I لها في الآخرة خيرٌ وأبقى.
إخلاص أم حبيبة وحبها لرسول اللهوبعد زواجها من رسول الله ظلَّتْ مخلصةً له ولدينه ولبيته؛ فيُروى أنَّ أبا سفيان بن حرب -والد السيدة أمِّ حبيبة- قد جاء من مكة إلى المدينة طالبًا أن يَمُدَّ النبي هدنة الحرب التي عُقدت في الحديبية، فلم يقبل رسول الله ، فجاء إلى ابنته أمِّ حبيبة -رضي الله عنها- زوج النبي ، فأراد أن يجلس على فراش رسول الله فطوته دونه، فقال: يا بُنَيَّة، أرغبت بهذا الفراش عني، أو بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت امرؤ مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله . قال: يا بُنَيَّة، لقد أصابك بعدي شرٌّ. فقالت: بل هداني الله للإسلام، وأنت -يا أبتِ- سيِّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟! فقام من عندها...[10].
وكانت -رضي الله عنها- مع غَيْرتها على رسول الله تحبُّ أن تشاركها فيه أختها عزَّة بنت أبي سفيان؛ فقد سمِعَتْ أن رسول الله همَّ أن يتزوَّج دُرَّة بنت أمِّ سلمة؛ فعن زينب بنت أبي سلمة أن أمَّ حبيبة قالت: قلتُ: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "وَتُحِبِّينَ؟". قلتُ: نعم، لست لك بمُخْلِيَةٍ، وأحبُّ مَن شاركني في خيرٍ أُختي. فقال النبي : "إِنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ لِي". قلتُ: يا رسول الله، فوالله إنَّا لنتحدَّث أنك تريد أن تنكح دُرَّة بنت أبي سلمة. قال: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟". فقلتُ: نعم. قال: "فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي؛ إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ[11]، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ"[12].
وقيل: إن قول الله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7] نزل في أبي سفيان صخر بن حرب، فإنَّ رسول الله تزوَّج ابنته أمَّ حبيبة، فكانت هذه مودَّة ما بينه وبينه[13].
فقه أم حبيبة ومحافظتها على سنة النبيوبعد وفاة النبي ظلَّت السيدة أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- مستمسِّكة بسُنَّته ؛ ولمَّا جاء نعي أبي سفيان من الشام دعتْ أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- بصفرة في اليوم الثالث، فمسحتْ عارضيها وذراعيها، وقالت: إني كنتُ عن هذا لغنية، لولا أني سمعتُ رسول الله يقول: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا"[14].
مروياتها عن رسول اللهروت أمُّ المؤمنين أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- عن النبي عدَّة أحاديث، جعلها بَقِيّ بن مَخْلد خمسة وستِّين حديثًا، ولها في مجموع الكتب الستَّة تسعة وعشرون حديثًا، اتَّفق لها البخاري ومسلم على حديثيْن، وروى عنها أخواها معاوية وعنبسة، وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير، وشُتَير بن شَكَل، وشهر بن حوشب، وأبو سفيان بن سعيد بن الأخنس وهي خالته، وأبو صالح ذكوان السمَّان، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أبي سلمة. وحديثها -رضي الله عنها- مشهور في تحريم الربيبة وأخت المرأة، وأيضًا حديثها في فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن مشهور، وقد رواه عنها معظم التلاميذ الذين ذكرناهم، كما حوت مرويَّاتها أحاديث في وجوب الإحداد للمرأة المتَوَفَّى عنها زوجها، وعدم جوازه لغير الزوج فوق ثلاثة أيام، والكُحْل للحادَّة... وفي أبواب الحج روت في استحباب دفع الضعفة من النساء وغيرهن من المزدلفة إلى مِنى في أواخر الليل قبل زحمة الناس، وفي أبواب الطهارة: الوضوء ممَّا مسَّته النار، وفي صلاة الرجل في الثوب الذي جامع فيه، وما يجوز للرجل من المرأة الحائض... وفي أبواب الصوم: روت في جواز القُبْلَة للصائم، وفي الدعاء بعد الأذان... وروت في العير التي فيها الجرس لا تصحبها الملائكة، وغيرها[15].
حياة أم حبيبة بعد النبيعاشت السيدة أمُّ حبيبة -رضي الله عنها- بعد رسول الله ثلاثًا وثلاثين سنة[16]، متمسِّكة بهدية، سائرة على سُنَّتِه، عميقة الصلة بالمؤمنين جميعًا، مشارِكة للمسلمين في الأحداث العظمى؛ ففي أيام الفتنة الكبرى، ولما اشتدَّ أذى المتمرِّدين على عثمان بن عفان قال الناس: لو جئتم بأمِّ المؤمنين؛ عسى أن يكفُّوا عنه. فجاءُوا بأمِّ حبيبة بنت أبي سفيان، فنظرتُ[17] إليها وهي على بغلة بيضاء في محفة[18]، فلمَّا جاءُوا بها إلى الدار[19]، صرفوا وجه البغلة حتى ردُّوها[20].
كما كانت حسنة الصلة بأُمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعًا، حريصةً على وُدِّهن واسترضائهن، ففي اللحظات الأخيرة من حياتها استدعت السيدة عائشة -رضي الله عنها- لتقول لها أمرًا غاية في الأهمِّيَّة بالنسبة لها؛ فعن عوف بن الحارث قال: سمعتُ عائشة -رضي الله عنها- تقول: دعتني أمُّ حبيبة زوج النبي عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك. فقلتُ: غفر الله لكِ ذلك كله، وتجاوز وحلَّلَكِ من ذلك. فقالت: سررتني سرَّك الله. وأرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثل ذلك...[21].
وفاة أم حبيبةعند وفاتها تجسَّدت فيها -رضي الله عنها- رُوح الحبِّ والأُلْفَة بينها وبين أُمَّهات المؤمنين الباقيات، عندما طلبت من السيدة عائشة أن تحللها من أي شيء فحللتها، واستغفرت لها، وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين عن ثمانٍ وستين سنة، في خلافة أخيها معاوية بن أبي سفيان[22].