في أروقة الجامعة الاسلامية ...
المدير والمستدير في الجامعات الاسلاميةد.ماجد بن ناصر الشمريالمنصب تكليف لا تشريف: كلمة قيلت لنا وما زلنا نقولها لمن بعدنا، ولكن: هل يسلم كل ذي منصب من سكرة الولاية فيرى الأمور على حقائقها؟
هل يعرف كل ذي منصب الفرق بين المظهر الأجوف والجوهر النفيس؟ وإذا عرفه فهل تدلّ حركاته وسكناته على ما يشعر به؟
زرت الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية لأحضر مؤتمرا علميا، وفي ذهني ما كنت رأيته من مؤتمرات مشابهة تقام في جامعات أخرى: يطنطن لها الإعلام وتنشر على هامشها وفي متنها أحيانا صور مدير الجامعة وابتسامته العريضة الفجة تصفع وجه القارئ، وفي الخفاء تُرصد لها ملايين لا تدري أين تذهب؟ وعلى ماذا تصرف؟ وإذا أردت عدّ اللجان المتفرعة عنها أعياك العدّ، وإن شئت أن تنظر إلى عدد العاملين فيها والملحقين بها والمتمسكين بأذيالها والمتسلقين على سلالمها يرجع إليك الطرف خاسئا وهو حسير، ثم لا شيء لا شيء لا شيء (قالها ثلاثا) سوى صفحات من الجرائد المتثائبة تبارك المؤتمرات المتلاحقة كتلاحق الشياه في المرعى، المتدافعة كتدافع الأرانب على العشب، وتشكر عبقرية المدير وجبروته الإداري الذي جعله يجرجر عباءته في كل ما هبّ ودبّ، وخلفه عدد من ساحبي (البشوت) الطائرين خلف كلّ ذي (بشت) مزركش.
في الجامعة الإسلامية كان مدير الجامعة محمد العقلا أنموذجا للشعور بالتكليف: يستقبل المشاركين، ويجلس في طرف الصف، ويمشي مع الطلاب ويتوضّأ معهم للصلاة ولا أحد يدري أن المدير بين الواقفين إلا إذا أمعن نظره في وجهه، فلا (بشت) يُجرجَر، ولا حاشية تجرجِر معه وتجترّ خلفه، ولا هيلمان وسلطان ودق طبول وضرب أبواق كما يفعل (المستدير) في جامعة أخرى.
الفرق بين المدير والمستدير أن الأول يعرف انه مكلف، والثاني لا يعرف أنه لا يعرف، المدير يحمل العبء على كاهله، والمستدير لا يحط العباءة عن كتفيه
المدير يذهب ويجيء خادمًا لجامعته وطلابها وأساتذتها وضيوفها، فهو يستحق اسم الفاعل (مدير)، والمستدير يذهبون به وخلفه دبابات نارية وسيارات مصفحة ضدّ التواضع، مظللة للتضليل
المدير يحرق نفسه عملا وجِدًّا، والمستدير يُحرَق في موكبه البخور، وتحترق في طريقه المروءة والصدق والفضل
قيل لي عن المدير (محمد العقلا) قصص فكدت لا أصدق حتى رأيته رأي العين، مثالا للتواضع والصدق والجدّ والعنفوان والبذل والتضحية
حكوا عنه انه زار معهدا يتبع الجامعة ليرعى حفل الطلاب، وبعد الحفل وضعوا مائدتين للعشاء، الأولى للمدير والضيوف ومسؤولي المعهد، والثانية للطلاب، ففوجئوا بالمدير يقعد مع الطلاب ويترك الموائد الخاصة، قيل له: (تعال هنا يا معالي المدير) فقال: أنا جئت لأجل هؤلاء وسأتعشى معهم.
المدير في المؤتمر يقعد جانبا ويتحرك كثيرا قائما وقاعدا يأمر وينهى ويوصي ويتأكد من سريان التنظيم على ما يخطط له، كأي موظف عادي صغير، ووكلاؤه وعمداء الكليات يقعدون في الصفوف الثالثة فما بعدها؛ لأنهم تركوا الصفوف الأولى للضيوف.
أما (المستدير) فهو يقعد متفرعنا في جامعته ذات الاسم الطويل المنتهي، ووكلاؤه وكثير من عمداء كلياته ومن لفّ لفّهم يلتحفون بعباءاتهم ولا يطيقون فراقها و(يرتزّون) في المقدمة تاركين ضيوف مؤتمراتهم في الصفوف الخلفية!!
لا يخرج المستدير إلا بهيلمان ويده (الكريمة) تلوح للحاضرين، وتعِدهم بان تمطرهم تحايا كلما رأتهم عينه (الكريمة)
أما المدير (العقلا) فهو التواضع والعفة والنُّبل والصدق، لا يجعجِع ولا يُجعجَع له، ولا يتشبع بما ليس فيه، ولا يملأ القاعات زعيقا بكلام مردّد ممجوج عن (الطاعة) و (الولاء)
كنت في مؤتمر الجامعة الإسلامية ممن دخلوا إلى قاعة العشاء متأخرين فوجدت طاولة عليها رجل ليس من الضيوف المهمين كما بدا فقعدت معه، وما هي إلا لحظات حتى جاء محمد العقلا نفسه فقعد معنا على الطاولة القصية البعيدة، وكان يأمر المشرف على العشاء بتوزيع بعض الإضافات على الموائد، ويخدم ضيوفه بيده
لم نشاهد كاميرات التصوير ولا جلجلة الأمن والسلامة، ولم نر الترزز الأعمى ولا التبجح الأصم ولا التفرعن الأبكم
يا محمد العقلا كيف للجامعات (الأخرى) أن تحظى بمثلك؟ وهل يقبل من عيّنك مديرا هناك أن ينقلك مديرا هنا ولو لبضعة أشهر لتعلّم (الصغار) معنى التواضع، وتلقّن البغاث شمم الصقور
لكن هل تدري: أنت لا تصلح هنا لأنك من طينة مباركة والمدينة النبوية لك ولأمثالك، أما المخلوق من طينة خبيثة فلا يمكن للبقعة المباركة إلا أن تنفيه؛ لأن الإيمان يأرز إلى المدينة وهي تنفي الخبَث.