بقلم الدكتور محمد موسى الشريفدعيت للحديث مع مجموعة من النسوة من ذوات الثراء، وهن زوجات وبنات لمسؤولين ومقدمين، وهن بعيدات عن الاستمساك بالإسلام بل بعيدات عن معرفة وفهم الإسلام، فحرت في أمري لأني لم أصنع هذا من قبل، لكن مرافقي رغبني في هذا وأخبرني أن هؤلاء النسوة لابُد أن يُدعين ويتكلم معهن عن الإسلام فإن تركن وشأنهن كان ذلك تقصيراً، فعزمت على الذهاب وصدعهن بالحق بقوة، ولا أرى بأساً في هذا الصنيع فأنا لم أحضر لطعام أو شراب أو مفاكهة إنما حضرت لأبلغ رسالة الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص النساء بموعظة ويأتيهن ويكلمهن في مكان أُعد لهن، ومما رغبني في الحضور أن الأخ المرافق الأستاذ سليمان داود جزاه الله خيراً أخبرني أنهن سيغطين أبدانهن وشعورهن احتراماً فعزمت على الذهاب إليهن وكان معي الأستاذ سليمان والأستاذ إبراهيم الديرباشي وهما من فضلاء الأردن ودعاته، وأول ما جئتهن طلبن الحديث عن الإسلام والإيمان، وقد أدركت أن عقب هذا سيأخذن في الحديث عن أمور هي من جملة الشبهات فلذلك مهدت للحديث كله بأن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، فأهم ما في الإسلام بعد التوحيد هو الاستسلام والانقياد لله، ومن لم يكن مستسلماً منقاداً طائعاً مُسَلِّماً فهذا في إسلامه نقص، وذكرت لهن قوله تعالى: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( النساء: ٦٥ وأكدّت على قضية التسليم هذه وبنيت عليها حديثي معهن، وكذلك قوله تعالى: ) وَمَا كانَ لِمُؤْمِن وَ لا مُؤْمِنَة إِذَا قَضى اللَّهُ وَ رَسولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لهَُمُ الخِْيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَدْ ضلَّ ضلَلاً مُّبِيناً ( الأحزاب: ٣٦ ثم أخذت النسوة في إيراد ما يرين أنه مشكل مثل تعدد الزوجات، ومثل الحجاب الذي يرينه مقيداً لهن، فأجبتهن إجابة مطولة بنيتها على قضية الاستسلام والانقياد لله، وعلى التسليم والرضى بحكمه، وذكرت لهن أن الحكمة من التشريع أكبر وأعظم من أن تحيط بها عقولنا، وأن الله تعالى الذي خلقنا هو أعلم بما يصلح لنا فقد قال سبحانه ) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( الملك: ١٤ وبينت لهن أن تعاسة إحداهن بالتعدد هي سعادة لامرأة أخرى وأهلها وجم غفير من معارفها وصديقاتها، وأن في التعدد إضراراً بالمرأة لكنه إضرار محتمل لما فيه من المزايا الكثيرة.
أما الحجاب فهو أمر الله تعالى للمرأة وفرضه الذي فرضه عليها، وليس للمرأة إلا أن تستجيب، وذكرت لهن أنه ينبغي لهن أن يفخرن بالحجاب ويعتززن به وأن يلبسنه برضى وحب وإقبال.
ثم تشعب الحديث عن تربية الأولاد وعن مسائل أخرى عديدة، وخرجت من عندهن شاعراً بأني قد أوصلت لهن رسالة مفادها وجوب الرضى والتسليم بأمر الله تعالى عن قناعة عقلية وعاطفة قلبية، ولم أدع لامرأة منهن سؤالاً إلا أجبت عليه بفضل الله تعالى، ولقد انشرح صدري بذلك اللقاء حيث إنني منذ زمن طويل جداً لا أقابل إلا الملتـزمين والصالحين والمستقيمين لكني رأيت أني بحديثي إلى هؤلاء النسوة قد أديت واجباً نحو غير الملتزمين المعاندين البعيدين، والله أعلم.
ثم أخذني مرافقاي الفاضلان الأستاذ سليمان داود والأستاذ إبراهيم الديرباشي إلى بلدة العقبة لألقي فيها المحاضرة نفسها التي ألقيتها في عمان وإربد "ضع بصمتك"، وركبنا إليها الطائرة في رحلة قصيرة كانت أقل من ساعة، ووصلنا إليها قرابة العصر، فجُلنا في أرجائها قبل موعد المحاضرة، وهي بلدة لطيفة نظيفة، نزهة، جميلة، تقع في آخر الشعبة اليمنى من البحر الأحمر، والشعبة اليسرى تنتهي بقناة السويس وبينهما شبة جزيرة سيناء، وراعني أني رأيت أمام البلد مباشرة بلدة أم الرشراش الفلسطينية المحتلة المسماة الآن بـ "إيلات"، ولا تبعد عن العقبة إلا رمية سهم كما تقول العرب، بل هي أمامها مباشرة وتكاد بيوت البلدتين أن تختلط، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وبالقرب منها على مرأى منا بلدة طابة المصرية فاجتمع في مكان واحد تقريباً ثلاث دول.
بعد المغرب اجتمع الناس في باحة مبنى فرع نقابة المهندسين، وسمعوا مني المحاضرة، وكانت هناك أسئلة كثيرة أجبت على بعضها، وبعد المحاضرة دعيت إلى العشاء، الذي حضرة ثلة من أهل الفضل على رأسهم الشيخ رياض البستنجي رئيس فرع جمعية المحافظة على القرآن الكريم بالعقبة، والأستاذ عمر العيد، وهو من فضلاء العاملين، وقد قصّا عليّ بفرح وسرور قصة قافلة شريان الحياة، وكيف وصلت إلى العقبة واحتفى بها أهل العقبة احتفاء عظيماً وفرحوا بها فرحاً كبيراً، وتسابق أصحاب الفنادق على طلب إيواء الناس في فنادقهم، ومما ذكراه أنه كان في القافلة فتاة تركية عمرها عشرون عاماً حافظة للقرآن الكريم، وكانت تحضر المحاضرات التي عُقدت في العقبة وهي عارفة باللغة العربية لا تفارق مصحفها وتقرأ أثناء المحاضرة، فأعجب بعض الحاضرين بسمتها وعرض عليها الزواج برجل صالح من أهل العقبة فغضبت الفتاة وقالت أنا مشروع شهادة ولستُ مشروعَ زواج!! فعلمت أن الخيرية في هذه الأمة باقية، وأن شعب الترك ما زال على إسلامه ودينه، وأن منهم مَن يُرفع به الرأس.
ثم أفاض الأخوان الكريمان في ذكر رحلة العذاب التي فُرضت على قافلة شريان الحياة، وقد قررا أن يكونا فيها، فخرجوا إلى اللاذقية حيث أكرمهم أهلها غاية الإكرام، ثم منها أبحروا إلى العريش التي ذاقوا فيها الأمرين من السلطات المصرية التي حبستهم في مكان واحد ولم توصل لهم الطعام والشراب، فثار من كان معهم من الأتراك على هذا الوضع وخرجوا بالقوة من الصالة التي حُجزوا فيها وكانوا 520 شخصاً واشتبكوا مع القوات المصرية التي أوسعتهم ضرباً، وجرح منهم 59 كان منهم الشيخ رياض بستنجي رئيس فرع جمعية المحافظة على القرآن الكريم الذي كان يحدثني عن كل هذه التفصيلات، ثم بعد لأْي ومصادرة لـ 43 سيارة بما فيها سمح لهم بالمسير إلى رفح، فلما دخلوا غزة اشترط عليهم ألا يبقوا فيها أكثر من 48 ساعة، فلما دخلوا سجدوا فرحاً بالوصول إلى فلسطين، وقد أخبرني الشيخ رياضاً أنه لم ينم في الـ 48 ساعة إلا أربع ساعات فقط كل يوم ساعتان فرحاً وانشغالاً وجولاناً في غزة فهنيئاً له ولكل من دخل تلك الديارة المقدسة المباركة، ورزقنا الله ذلك الفضل العظيم، وأسعدنا بصلاة طيبة في بيته المقدس قبل الموت، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وحدثاني أن معنويات الناس مرتفعة، وأنهم راضون كل الرضى بما هم عليه، وهذا من فضل الله عليهم وإلا فالأحوال لا تطاق لكن المؤمنين لهم شأن آخر في صبرهم ورضاهم.
ثم أخذني الشيخ رياض إلى بيته للقاء مباشر في الإنترنت مع طلاب القرآن الذين يشرف عليهم فتكلمت معهم لمدة عشرين دقيقة تقريباً وأجبت عن أسئلتهم، ثم بعد ذلك أجرى معي صحفي من جريدة الدستور لقاء سريعاً بُث أيضاً في الإنترنت فما أحسن هذه التقنية الحديثة التي ربطتنا ونحن في العقبة مع مائة شخص كانوا يستمعون من أنحاء العالم على غير موعد مسبق ولا اتفاق فالحمد لله رب العالمين.
وفي الصباح الباكر نزلت إلى مطعم الفندق للإفطار فجاءني أحد الطهاة فسألني عن مس لحم الخنـزير وحكمه، فسألته ولم أنت هاهنا؟ فأخبرني أنه يبحث عن عمل آخر، ثم أخبرني أن الذي يجري في فنادق العقبة من المخازي بسبب وجود الأجانب شيء كثير، وأن اليهود منتشرون بكثرة وأنهم يسرقون المناشف وغيرها من الأدوات من الغرف!! وهذه عادة اليهود في دناءتهم وخستهم، وأن اليهود مع النصارى يعيثون في أرض العقبة الفساد فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يطهر أرض الإسلام منهم.
ثم بعد ذلك شددت الرحال إلى عمان ومنها إلى جدة، وأسأل الله أن يتقبل مني هذه الأعمال ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، آمين.
المصدر : موقع التاريخ (عند النقل ذكر المصدر)